فصل: قال سيد قطب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فإن قيل: فقد تأولتم آيات وأخبارًا، فقلتم في قوله تعالى: {وهو معكم اينما كنتم} أي: بالعلم، ونحو هذا من الآيات والأخبار، فيلزمكم ما لزمنا؟
قلنا: نحن لم نتأول شيئًا، وحملُ هذه اللفظات على هذه المعاني ليس بتأويل لأن التأويل صرف اللفظ عن ظاهره، وهذه المعاني هي الظاهر من هذه الألفاظ، بدليل أنه المتبادر إلى الإفهام منها. وظاهر اللفظ هو ما يسبق إلى الفهم منه، حقيقة كان أو مجازًا، ولذلك كان ظاهر الأسماء العرفية، المجاز دون الحقيقة، كاسم الرواية والظعينة وغيرهما من الأسماء العرفية، فإن ظاهر هذا المجاز دون الحقيقة، وصرفها إلى الحقيقة يكون تأويلًا يحتاج إلى دليل، وكذلك الألفاظ التي لها عرف شرعيّ وحقيقة لغوية، كالوضوء والطهارة والصلاة والصوم والزكاة والحج، إنما ظاهرها العرف الشرعيّ دون الحقيقة اللغوية. وإذا تقرر هذا فالمتبادر إلى الفهم من قولهم: إن الله معك، أي: بالحفظ والكلاءة؛ ولذلك قال تعالى فيما أخبر عن نبيّه {إِذْ يَقول لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]، وقال لموسى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46]، ولو أراد أنه بذاته مع كل أحد لم يكن لهم بذلك اختصاص؛ لوجوده في حق غيرهم كوجوده فيهم، ولم يكن ذلك موجبًا لنفي الحزن عن أبي بكر، ولا علة له؛ فعلم أن ظاهر هذه الألفاظ هو ما حملت عليه، فلم يكن تأويلًا، ثم لو كان تأويلًا فما نحن تأولناه، وإنما السلف رحمة الله عليهم، الذين ثبت صوابهم، ووجب اتباعهم، هم الذين تأوَّلوه، فإن ابن عباس والضحاك ومالكًا وسفيان وكثيرًا من العلماء قالوا في قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ}: أي: علمه، ثم قد ثبت بكتاب الله، والمتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع السلف، أن الله تعالى في السماء على عرشه، وجاءت هذه اللفظة مع قرأئن محفوفة بها دالة على إرادة العلم منها، وهو قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [المجادلة: 7]، ثم قال في آخرها: {أَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فبدأها بالعلم، وختمها به، ثم سياقها لتخويفهم بعلم الله تعالى بحالهم، وأنه ينبئهم بما عملوا يوم القيامة ويجازيهم عليه، وهذه قرائن كلها دالة على إرادة العلم، فقد اتفق فيها هذه القرأئن، ودلالة الأخبار على معناها، ومقالة السلف وتأويلهم؛ فكيف يلحق بها ما يخالف الكتاب والأخبار ومقالات السلف؟ فهذا لا يخفى على عاقل إن شاء الله تعالى، وإن خفي فقد كشفناه وبيناه بحمد الله تعالى، ومع هذا لو سكت إنسان عن تفسيرها وتأويلها لم يخرج ولم يلزمه شيء، فإنه لا يلزم أحدًا الكلام في التأويل إن شاء الله تعالى. انتهى كلام ابن قدامة رحمه الله.
{وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي: فيجازيكم عليه.
{لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} أي: أمور جميع خلقه، فيقضي بينهم بحكمه.
{يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} أي: يدخل ما نقص من ساعات أحدهما فيجعله زيادة في الآخر بحكمته وتقديره {وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أي: بضمائر صدور عباده، وما عزمت عليه نفوسهم من خير أو شر.
{آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} أي: آمنوا الإيمان اليقيني ليظهر أثره عليكم، فيسهل عليكم الإنفاق من مال الله الذي موّلكم إياه، وجعلكم مستخلفين فيه، بتمكينكم وإقداركم على التصرف فيه بحكم الشرع؛ إذ الأموال كلها لله، واختصاص نسبة التصرف إنما هو بحكمه في شريعته، أفاده القاشانيّ.
وقال الشهاب: الخلافة إمّا عمّن له التصرف الحقيقيّ، وهو الله تعالى، وهو المناسب لقوله: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أو عمّن تصرّف فيها قبلهم ممن كانت في أيديهم فانتقلت لهم. وعلى كلٍّ ففيه حث على الإنفاق وتهوين له، أما على الأول فظاهر؛ لأنه أذن له في الإنفاق من ملك غيره، ومثله يسهل إخراجه وتكثيره. وعلى الثاني أيضًا، لأن من علم أنه لم يبق لمن قبله، علم أنه لا يدوم له أيضًا، فيسهل عليه الإخراج.
وما المالُ والأهلونَ إلا ودائعُ ** ولا بدَّ يومًا أن تُردَ الودائع

{فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} أي: وما يصدّكم عنه، وقد ظهرت دواعيه، اتضحت سبله لذويه كما قال: {وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ} أي: يدعوكم من طريق النظر والتفكر إلى الإيمان بالذي ربَّاكم بنعمه، وصرّفكم بآلائه، فوجب عليكم شكره.
{وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ} أي: بالإيمان، إذ ركّب فيكم العقول، ونصب الأدلّة. ومكّنكم من النظر، بل أودع في فطركم ما يضطركم لذلك إذا نُبهتم، وقد حصل ذلك بتذكير الرسول، فما عليكم إلا أن تأخذوا في سبيله.
{إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} قال القاشانيّ: أي: إن بقي نور الفطرة والإيمان الأزلي فيكم.
{هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} أي: حُجَجًا واضحات، وبراهين قاطعات {لِيُخْرِجَكُم} أي: الله، أو عبده بآياته {مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ} أي: من ظلمات الجهل والكفر والأهواء المتضادّة، إلى نور الهدى واليقين، الذي تشعر به النفوس، وتطمئن به القلوب. {وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} أي في إنزاله الكتب، وإرساله الرسل لهدايتكم، إزاحة للعلل، وإزالة للشبهة.
ولما كان إنزال هذه السورة للأمر بالإنفاق في سبيل الله، والترغيب فيه، والحث عليه، أكثر من ذكره في ضروب من البيان، وفنون من الإحكام، ولذا قال سبحانه: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي: يرث كل شيء فيهما، ولا يبقى لأحد مال. وإذا كان كذلك، فما أجدر أن ينفق المرء في حياته، ويتخذه ذخرًا يجده بعد مماته.
قال الشهاب: هذا من أبلغ ما يكون في الحث على الإنفاق، لأنه قرنه بالإيمان أولًا لما أمرهم به، ثم وبخهم على ترك الإيمان، مع سطوع براهينه، وعلى ترك الإنفاق في سبيل من أعطاه لهم، مع أنهم على شرف الموت، وعدم بقائه لهم إن لم ينفقوه، وسبيل الله كل خير يوصلهم إليه، أعم من الجهاد وغيره. وقصر بعضهم إياه على الجهاد، لأنه فرده الأكمل، وجزؤه الأفضل، من باب قصر العامّ على أهم أفراده وأشملها، لا سيما وسبب النزول كان لذلك.
{لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} أي: من قبل فتح مكة، أو صلح الحديبية، وقاتل لتعلو كلمة الحق. ومن أنفق من بعد وقاتل في حال قوة الإسلام، وعزة أهله. فحذف الثاني لوضوح الدلالة عليه فإن الاستواء لا يتم إلا بذكر شيئين، على أنه أشير إليه بقوله مستأنفًا عنهم زيادة في التنويه بهم: {أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا} أي: لعظم موقع نصرة الرسول، صلوات الله عليه، بالنفس، وإنفاق المال في تلك الحال، وفي المسلمين قلة، وفي الكافرين شوكة وكثرة عدد؛ فكانت الحاجة إلى النصرة والمعاونة أشد، بخلاف ما بعد الفتح، فإن الإسلام صار في ذلك الوقت قويًا، والكفر ضعيفًا، ويدل عليه قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ} [التوبة: 100]، وقوله عليه السلام: «لا تسبوا أصحابي، فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا ما بلغ مُدّ أحدهم ولا نصيفه». وهذه الآية دالة على فضل من سبق إلى الإسلام وأنفق وجاهد مع الرسول صلى الله عليه وسلم أفاده الرازيّ.
وفي (الإكليل): في الآية دليل على أن للصحابة مراتب، وأن الفضل للسابق، وعلى تنزيل الناس منازلهم، وعلى أن أفضلية العمل على قدر رجوع منفعته إلى الإسلام والمسلمين، لأن الأجر على قدر النصب. انتهى.
{وَكُلًّا} أي: وكل واحد من الفريقين {وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى} أي: المثوبة الحسنى، وهي الجنة، لا الأولين فقط، وإن كان بينهم تفاوت في تفاضل الجزاء.
قال ابن كثير: وإنما نبه بهذا لئلا يهدر جانب آخر، فيمدح الأول دون الآخر، فيتوهم متوهم ذمه، فلهذا عطف بمدح الآخر والثناء عليه، مع تفضيل الأول عليه.
{وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أي: من النفقة في سبيله، وجهاد أعدائه، وغير ذلك فيجازيكم على جميع ذلك.
قال ابن كثير: ولخبرته تعالى، فاوت بين ثواب من أنفق من قبل الفتح وقاتل، ومن فعل ذلك بعد ذلك، وما ذاك إلا لعلمه بقصد الأول، وإخلاصه التامّ، وإنفاقه في حال الجهد والقلة والضيق، وفي الحديث: «سبق درهم مائة ألف» ولا شك عند أهل الإيمان أن الصدِّيق أبا بكر رضي الله عنه له الحظّ الأوفر من هذه الآية، فإنه سيّد من عمل بها من سائر أمم الأنبياء، فإنه أنفق ماله كله ابتغاء وجه الله عزّ وجلّ، ولم يكن لأحد عنده نعمة يجزيه بها. وقوله تعالى: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا} قال أبو السعود: ندب بليغ من الله تعالى إلى الإنفاق في سبيله، بعد الأمر به، والتوبيخ على تركه، وبيان درجات المنفقين، أي: من ذا الذي ينفق ماله في سبيله تعالى رجاء أن يعوضه، فإنه كمن يقرضه، وحسن الإنفاق بالإخلاص فيه، وتحري أكرم المال، والإنفاق وأفضل الجهات له. فالقرض مجاز عن حسن إنفاقه مخلصًا في أفضل جهات الإنفاق؛ وذلك إما بالتجوز في الفعل، فيكون استعارة تبعية تصريحية، أو في مجموع الجملة، فيكون استعارة تمثيلية، وقد زعم بعضهم أنها مقصورة على النفقة في القتال، وآخرون على نفقة العيال. قال ابن كثير: والصحيح أنه أعم من ذلك، فكل من أنفق في سبيل الله بنيّة خالصة، وعزيمة صادقة، دخل في عموم هذه الآية.
وهو جليّ، وقد أسلفنا بيانه مرارًا.
وقوله تعالى: {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} أي: يعطيه ثوابه أضعافًا مضاعفة، {وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} أي: جزاء شريف جميل. والجملة حالية، أو معطوفة مشيرة إلى أن الأجر كما زاد كَمُّهُّ، راد كَيْفُهُ.
{يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم} أي: لكونهم على الصراط المستقيم، متوجهين إليه تعالى. والنور إما حقيقيّ حسيّ، على ما روي عن ابن مسعود: أن نورهم على قدر أعمالهم، منهم من نوره مثل الجبل، ومنهم من نوره مثل النخلة، ومنهم من نوره مثل الرجل القائم، فدون ذلك. قيل: وإنما خصصت تلك الجهات؛ لأن منها أخذت صحف الأعمال، فجعل الله معها نورًا يعرف به أنهم من أصحاب اليمين، وإما مجازيّ معنوي مراد به ما يكون سببًا للنجاة، واختاره ابن جرير، وأيده بقوله: لو عنى بذلك النور الضوء المعروف، لم يخص عنه الخبر بالسعي بين الأيدي والأيمان، دون الشمائل، لأن ضياء المؤمنين الذين يؤتونه في الآخرة يضيء لهم جميع ما حولهم، وفي تخصيص الخبر عن سعيه بين أيديهم وبأيمانهم، دون الشمائل، ما يدل على أنه معنيّ به غير الضياء وإن كانوا لا يخلون من الضياء؛ فتأويل الكلام إذ كان الأمر على ما وصفنا: وكلًا وعد الله الحسنى يوم ترون المؤمنين والمؤمنات يسعى ثواب إيمانهم وعملهم الصالح بين أيديهم وفي أيمانهم كتب أعمالهم تَطَايرُ.
ويعني بقوله: {يَسْعَى} يمضي والباء في قوله: {وَبِأَيْمَانِهِم} بمعنى في، وكان بعض نحويي البصرة يقول: الباء في قوله: {وَبِأَيْمَانِهِم} بمعنى على أيمانهم، وقوله: {يَوْمَ تَرَى} من صلة وَعَدَ. انتهى.
{بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ} أي: يقول لهم من يتلقاهم من الملائكة: بشراكم، أي: المبشَّر به جنات أو بشراكم دخول جنات. وقد قيل: إن البشارة تكون بالأعيان فلا حاجة لتقدير مضاف تصحيحًا للحمل.
{تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
{يَوْمَ يَقول الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} أي: نصب منه، يقال: اقتبس، أي: أخذ قبسًا، وهو الشعلة. و{انظُرُونَا} بمعنى انظروا إلينا، على الحذف والإيصال؛ لأن النظر بمعنى مجرد الرؤية، يتعدى بـ إلى، فإن أريد التأمل تعدى بـ في. وقولهم ذلك إما حينما يساق المؤمنون إلى الجنة زمرًا، والمنافقون في العرصات شاخصون إليهم، أو حينما يشرفون من الغرف على المنافقين، وهم في ضوضائهم وجلبتهم في جهنم، كقوله تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ} [الأعراف: 50] الآية.
وقيل:
{انظُرُونَا} بمعنى انتظرونا، وهو الذي عول عليه ابن جرير. والمراد حينئذ من الانتظار للاقتباس، هو رجاء شفاعتهم لهم، أو دخولهم الجنة معهم طمعًا في غير مطمع، يقولون لهم ذلك حينما يسرع بهم إلى الجنة.
{قِيلَ} أي: قالت الملائكة أو المؤمنون: {ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} قال الزمخشري: طردٌ لهم، وتهكم بهم، أي: ارجعوا إلى الموقف إلى حيث أعطينا هذا النور فالتمسوه هناك، فمن ثم يقتبس، أو ارجعوا إلى الدنيا فالتمسوا نورًا بتحصيل سببه، وهو الإيمان. أو ارجعوا خائبين، وتنحوا عنا فالتمسوا نورًا آخر، فلا سبيل لكم إلى هذا النور وقد علموا أن لا نور وراءهم، وإنما هو تخييب وإقناط لهم. وكلامه يدل على حمل النور على حقيقته، ولا مانع من أنه كنى به عن الإيمان والعمل الصالح، أي: ارجعوا إلى الدنيا فالتمسوا إيمانًا وعملًا طيبًا يهديكم إلى النجاة، كما أن النور يهدي في الظلمات، على طريق الاستعارة. والأمر للتخسير والتنديم. وهذا مع ما ذكره الزمخشري رحمه الله، وجه رابع.
ونقل الرازيّ عن أبي مسلم، أن المراد من قول المؤمنين: {ارْجِعُوا} منع المنافقين عن الاستضاءة كقول الرجل لمن يريد القرب منه: وراءك أوسع لك. قال الرازيّ: فعلى هذا القول، المقصود من قوله: {ارْجِعُوا} أن يقطعوا بأنه لا سبيل لهم إلى وجدان هذا المطلوب، لأنه أمر لهم بالرجوع. انتهى، وهذا وجه خامس.
ثم أشار إلى امتياز الفريقين في المنازل وتباينهما فيها، بقوله سبحانه: {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ} أي: بين المؤمنين والمنافقين بحائط متين يحجزهم عن أنوار المؤمنين، لتتم ظلمتهم {لَهُ} أي: لذلك السور {بَابَ} أي: لأهل الجنة يدخلون منه، ويرى به المنافقون المؤمنين ليكلموهم {بَاطِنَهُ} وهو الجانب الذي يلي المؤمنين {فِيهِ الرَّحْمَةُ} يعني: الجنة وما فيها من رضوان الله والنعيم المقيم {وَظَاهِرُهُ} وهو الذي يلي المنافقين {مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ} أي: من عنده، ومن جهته الظلمة والنار.
{يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ} يريدون موافقتهم في الظاهر {قالوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ} أي: محنتموها بالنفاق وأهلكتموها {وَتَرَبَّصْتُمْ} أي: بالمؤمنين الدوائر، ليظهر الكفر فتظهروا ما في أنفسكم {وَارْتَبْتُمْ} أي: في توحيد الله ونبوة نبيّه، أو في البعث بعد الموت، أو في قوله: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة: 33] و[الفتح: 28]، ووعده بنصر المؤمنين، أو في جميع ذلك.
{وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ} أي: طول الآمال والطمع في امتداد الأعمار، أو قولهم: {سَيُغْفَرُ لَنَا}.
{حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ} يعني: الموت، أو مصداق وعده بنصرة رسوله وإظهار دينه، أو عذاب النار {وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} أي: الشيطان، فأطمعكم بالنجاة والفوز والغلبة. وقرئ: {الغرور} بالضم.
{فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ} هذا من تتمة قول المؤمنين للمنافقين بعد أن ميز بينهم، أي: فاليوم لا يقبل منكم ما يفتدى به، بدلًا من عذابكم، وعوضًا من عقابكم {وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} يعني المجاهرين بالكفر من المحادّين لله ولرسوله {مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ} أي: أولى بكم، أو تتولاكم كما توليتم موجباتها في الدنيا {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أي: النار. اهـ.

.قال سيد قطب:

سورة الحديد:
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)}.